الخميس، 30 سبتمبر 2010

ليلة الرحيل عن أرض الوطن


لا شك أن رحيل الإنسان عن الوطن الذي خلق فوق أرضه وترعرع تحت سمائه وعاش فيه أجمل وأروع لحظات حياته، لا شك أنه ليس بالموقف اليسير عليه سيما وأنه سيفارق الأهل والأحبة والأصحاب الذين عرفهم وعرفوه والذين أحبهم وأحبوه، سيفارقهم إلى ديارٍ لا يعرف عنها شيئاً إلا إسمها ومكانها الجغرافي وبعض المعلومات التي يقرؤها كما يقرؤها سواه ولكنه لم يعتد على تلك الديار ولا على أهلها، حقيقة أنها لحظات عصيبه لا يعرفها إلا من جربها.

وكذلك أنا، شعرت بمشاعر كثيره كان الحزن سيدها.

شعرت بأن الدموع تنساب من عينيي رغماً عني، كنت أحاول إخفائها عن عيني أمي الحبيبة التي كانت تودعني والدموع تغسل وجنتيها، لكنني لم أفلح وحق لي ذلك فتلكم هي أمي التي ضحت بعمرها من أجلي ومن أجل إخواني، هي أمي التي تعبت من أجلنا وعانت كثيراً، هي أمي التي كانت تتسائل في أيام طفولتي وتقول متى تكبر يا محمد؟ متى أراك رجلاً؟! وأعلم أنها كانت تعني ذلك جيداً لأنها قد سئمت من الحياة ومن عنائها فتتمنى أن ترى أبنائها وقد كبروا ليحملوا عنها العناء وليحملوها ويرعوها في كبرها كما فعلت لهم في صغرهم، واليوم وبعد أن كبرت في نظرها وصرت رجلاً أتيت أودعها وأتركها مسافراً إلى بلاد الغربة لأقضي فيها من العمر ما يزيد على ثمانية أعوام !!

نعم فلذلك حق لي أن أبكي لبكاء أمي الغالية على قلبي، ودعت تلك الأم الحنونة والقلب يتفجر حرقة وألم، حملت حقيبتي لأغادر المكان فكانت أقدامي تمضي إلى الأمام بخطى ثقيلة بينما نفسي تعود إلى الوراء لتتسلل إلى كل خلية في ذلك الجسد الذي بدت عليه آثار الآيام وملامح السنين لتقبلها وتحضنها.

مضيت في طريقي أجر خطاي وركبت في سيارة صديقي وإبن أختي العزيز على قلبي (محمد) والذي أكن له من الحب والإحترام ما الله به عليم ليأخذني إلى منزل (خالي)، حيث كانت زوجتي وأبنائي ينتظروني للوداع، يا الله وهل يقوى قلب ودع أمه الحبيبة قبل قليل على وداع زوجته الغالية وأبنائه الذين لم يعتد على فراقهم لأكثر من إسبوع؟!

هنالك فاضت الدموع، وهنالك شعرت بغصة تقفل حنجرتي خصوصاً عندما رأيت الدموع الصادقة في عيني زوجتي العزيزة وعيني خالي العزيز وخالتي والأكثر من ذلك عندما رأيت الدموع في عيون أبنائي (سامي ومرام) حينما كانوا يسألونني: متى ستعود يا أبي؟!

غادرت المكان وقد حل المساء وكان المساء بالنسبة لي قد حل مبكراً في ذلك اليوم (حينما ودعت أمي)، غادرت وأنا أعرف أن هنالك أبي الحبيب وأخي (جابر) في إنتظاري للسلام والوداع.

كنت أركب في سيارة صديقي ونسير نحوهم وأنا أتخيل ذلك الوجه الذي إمتلأ وقاراً، أتخيل تلك اللحية البيضاء وذلك الوجه الوضاء الذي إرتسمت عليه خطوطاً تشير إلى أفعال السنين، وصلت وسلمت ثم ودعت.

ودعتهم جميعاً! ومن ودعت؟!
إنني أودع روحي! فذاك أبي الذي عاش من أجلي وأجل إخوتي، ذاك أبي الذي منحنا الحب والحنان، ذاك أبي الذي لن توفيه كلماتي حقه مهما كتبت عنه ...
وذاك أخي الحبيب وتوئم روحي الذي قضيت معه أجمل سنين العمر، قضيناها تحت سقف واحد، نأكل من صحن واحد، ونشرب من إناء واحد، نصحو سوياً وننام سوياً، نبقى جميعاً ونسير جميعا، هيه أيها الزمان أهكذا أودع أخي الحبيب بكل بساطه..!
لا .. لن أفعل فله على قلبي ومشاعري وعيناي ما لسواه من الأحبه، فحق عليهم أن يفيضوا بما لديهم من أجله وقد فعلوا.

هنالك كان صديقي الآخر (جبران) ينتظر لينقلني بسيارته إلى مطار جازان الذي يبعد عنا حوالي (120) كيلو متراً، فودعت صديقي الأول وداعاً حاراً يليق بقدره ومكانته في قلبي وإنتقلت إلى سيارة صديقي الأخر وسرنا على بركة الله.

وصلنا إلى المطار في الوقت المناسب، وأنهيت إجراءات السفر وشحن العفش ثم ودعت ذلك الصديق العزيز الذي أبهج خاطري بأسلوبه الفكاهي السلس والذي خفف عني كثيراً من وطأة الفراق والوداع، فكنت كلما تذكرت أحبتي وبدأت الذكريات تتحرك حرك هو المكان بقصة رائعة أو فكهة مسلية، جزاه الله عني خير الجزاء.

ودعته وسرت إلى صالة المغادرة وجلست أنتظر وقت الإقلاع ومر الوقت سريعاً وأقلعت الطائرة وأنا على متنها، شعرت حين إقلاعها بحب وقيمة المكان ولكنني لا زلت أمني نفسي بمشهد آخر من وطني العزيز قبل رحيلي عنه إذ أن محطتي القادمة هي مطار الملك خالد الدولي بمدينة الرياض.

هبطت الطائرة ونزل الركاب ونزل محمد بينهم، كان وقت إقلاع الرحلة الأخرى ليس بالبعيد ولم يكن لدي من الوقت مايكفي للتجول في المطار لأودع كل أركانه فما كان مني إلا أن أنجزت متطلبات السفر وبالفعل حان وقت الإقلاع وأقلعت الطائرة وكاد قلبي أن يقتلع من مكانه بإقلاعها، كيف لا وأنا أغادر تراب وطني الحبيب إلى وطن لا أعرفه.

كانت حقاً هي القاصمة التي قصمت ظهري، فوداعي للوطن أنساني كل وداعٍ قبله، جرت دموعي على وجنتي دون إرادتي، ويعلم الله أنها لحظة حزن لم أشعر بمثلها من قبل وحق لي ذلك، فأنا أغادر وطني (المملكة العربية السعودية)، مهبط الوحي وأرض المقدسات، وطني الذي نبت لحم جسدي من خيراته.

إنها لحظة لن أوفيها حقها مهما قلت فيها أو كتبت عنها ولكن إن عجز قلمي عن ترجمتها فلن تعجز ذاكرتي عن حفظها ولن يعجز قلبي عن الإحساس بها كلما ذكرتها.



[وللذكرى بقية]
بقلم: محمد المالكي

هناك 3 تعليقات:

  1. ربي يرعاك وين ماكنت..
    شخص مكافح وطموح حق لي ان ارفع له قبعتي احتراما
    وتقديرا .. تحياتي لك أخي أبو سامي

    محبك : خليل علي السلمي

    ردحذف
  2. حياك الله أخي الكريم خليل السلمي
    أشكر لك زيارتك وثناؤك العطر

    الإحترام والتقدير لك أنت أخي العزيز

    أخوك
    محمد المالكي

    ردحذف
  3. ما اجمل ما خط قلمك
    انه الوداع
    مبدع كعادتك

    ردحذف

تعليقاتكم تهمني ... فلا تترددوا في تدوينها

الأكثر قراءة